الإخلاص والتجرّد

 

المعتقدات جميعها، كما أوضحنا، طريق أي وسيلة لا غاية. الأديان طريق والأحزاب طريق، والعلم طريق، وكل عمل أو سعي بشري طريق، طريق للاقتراب من الحقيقة، لتحقيق الحقيقة التي قد تتوزّع وتتفرّع لكنها واحدة في جوهرها وفي شمولها وفي إطلاقها. ومن يتصوّر غير ذلك يقع في شرك الصنميّة، صنميّة الدين وصنميّة الحزب وصنميّة العلم وصنميّة القومية وصنميّ‍ة السعي البشري على إطلاقه.

ومن تلبّس بالصنميّة، تلبّس بالتعصّب: تعصّب الدين، تعصّب الحزب، تعصّب العلم، تعصّب القومية، إلخ... والصنميّة وصنوها التعصّب يعنيان في الحقيقة الجهل، الجهل المطبق لما نعبد ولما نؤمن ولما نفعل ولما نتوهّم أننا نعلم ـ الجهل للحقيقة ـ الإنسان لا يتعصّب ولا يتصنّم إلاّ عن إيمان ـ لا عن يقين ـ أي عن إيمان متعامٍ، عن إيمان غير مدرك، غير بصير. وقد أوضحنا في ما قبل الفرق الشاسع بين الإيمان واليقين: إنَّ الذي يبصر النور مثلاً لا يتعصّب للنور، إنَّ الذي يبصر الشمس لا يتعصّب للشمس، إنَّ الذي يبصر الحقيقة لا يتعصّب للحقيقة. العلماء الحقيقيون ليسوا متعصّبين، الأولياء والقدّيسون ليسوا متعصّبين، الأبطال ليسوا متعصّبين. التعصّب هو واقع الجهلة الذين يحاولون أن يقنعوا الآخرين بما هم ليسوا به مقتنعين. أكثر الناس تعصّبًا أقلّهم معرفة لماهيّة قضيّتهم، أقلّهم تمرّسًا بمستلزمات إيمانهم، أقلّهم تطويقًا بقيم مناقبيّتهم. لذا كان التعصّب من واقع الجماهير، وبخاصة الجماهير الجاهلة، أي كان التعصّب من واقع العامّة لا الخاصة. ليقابل كلّ قارئ هذا الإيضاح بما يجري حوله، فيدرك حقيقة ما نقول.

التعصّب يرتكز دائمًا إلى الحرف لا إلى الروح. والمعنى لا يقيم في الحرف، بل يدلّ الحرف عليه. التعصّب هو "تقزّز" الإنسان على حرفية الحرف، أي على غير المعنى الذي يعنيه، على غير الحقيقة التي يرمز إليها الحرف الميت. التعصّب جمود الفكر على إطار من الصور الحرفية التي يبعثها في النفس جهل الإنسان لمصدر الإيمان ولهدف الإيمان ولحقيقة الإيمان. التعصّب اجترار النفس لما لم تستطع استيعابه وهضمه، التعصّب ذهول الإنسان أمام الصنم لا أمام وجه الألوهية التي يعبّر عنها الصنم. التعصّب هو ذهول الإنسان الشارد أمام صورة صديق له، فيؤكّد أنَّ الصورة هي الصديق بلحمه ودمه ونبضة الحياة فيه، بينما الصورة هي صورة لا أكثر ترمز إلى شخص وليست هي هذا الشخص. فمن عرف الصورة، لا يستطيع أن يقول: إنني أعرف هذا الشخص... وبالحريّ لا يستطيع أن يرشد الآخرين إلى حقيقة هذا الشخص، فلا عجب إذًا، إذا تركّز الذهول في فكر المتعصّب، أن تؤدّي به الحال إلى حال مرضية باتولوجية، تتنوّع درجاتها من الاضطراب العصبي والنفسي إلى الهستيريا ـ هستيريا الفرد وهستيريا الجماعة.

أضعف الناس يقينًا، أكثرهم كرزًا وبشارة. إنَّ الذين رجموا الأولياء وقتلوا الشهداء وتنكّروا للأبطال، هم من تلك الفئة الجاهلة المتعامية التي تعصّبت لهؤلاء ثم تعصّبت عليهم. ففعلت في الحالتين وهي لا تدري ماذا تعمل، على حدّ قول الناصري.

وفي هذا البلد وفي غيره، يسمّون التعصّب إخلاصًا ويقولون: فلان تعصّب لفلان، أي سعى في سبيله بإخلاص، أخلص له. وهم لا يدركون أنَّ الإخلاص لا قيمة له ولا جدوى له بحدّ ذاته. الشرّير مخلص والجاهل مخلص والقاتل مخلص والضعيف مخلص... كلّ مخلص لما هو عليه. إنَّ الإخلاص سيف ذو حدّين، كالتعصّب يرافق الشرّ والخير والرفعة والرذيلة والهدم والبنيان في آن واحد، ولا يشذّ عن قاعدة الإخلاص إلاّ الكاذب والمتداجي. لذا عُدَّ الكذب أعظم الرذائل. هو التجديف على الروح.

الإخلاص هو صفة الذين يعملون كما يفكّرون وكما يشعرون وكما يبدو لهم في عفوية انطلاقهم. الإخلاص عفوية، ولكن قد تكون عفوية الأنانية وعفوية الحطّة كما تكون عفويّة القداسة وعفوية البطولة. الإخلاص خطوة ولا شكّ، ومرحلة من مراحل نمو الشخصية وتطوّرها في الإنسان. إذ إنه ينقذ الإنسان من الكذب ويدفعه في طريق الصدق، الصدق مع ما يحسّ وما يشعر به وما يفكّر.

ولكن الإخلاص، كما قلنا صفة "حيادية" ترافق شتّى نشاطات الإنسان المتناقضة ومظاهر نفسيّته المتنوّعة. ولا يستقيم الإخلاص ولا يصبح ذات قيمة إيجابية في تعمير شخصية الإنسان، وذات جدوى صحيحة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي كلّ عمل بشري، إلاّ إذا اقترن الإخلاص بمعرفة الحقيقة وبالتالي بإدراك الحقيقة، بالشعور بالحقيقة وبفعل الحقيقة.

إذ ذاك لا يعود الإنسان يعمل ويتصرّف ويحبّ ويتنكّر، لأنه هو يفكّر هكذا ويشعر هكذا ويتصوّر هكذا ـ وفي ذاك ما فيه من أنانية انعكاس النفس الفردية على ذاتها ـ بل لأنَّ الحقيقة جعلته يفكّر هكذا فصوّبت عقله، ولأنَّ الحقيقة جعلته يشعر هكذا فهذّبت عواطفه وشذّبتها، ولأنَّ الحقيقة جعلته يعمل هكذا، فسدّدت منه الإرادة.

وإذ ذاك، في الواقع، يتعدّى الإنسان الإخلاص إلى التجرّد، أي الإخلاص المتطهّر من أدران الأنانية ومن غشاوة الجهل، الإخلاص المرتكز إلى يقين الحقيقة.

التجرّد وحده يعطي للعمل البشري قيمة ووجهة وجدوى. وكما أنَّ معرفة الحقيقة تفرض التجرّد في الإنسان، كذلك من يحاول التجرّد يتوصّل إلى الحقيقة. ومعنى التجرّد في هذا الباب السعي في سبيل معرفة الحقيقة بذهنية وبقصد منزّه عن كلّ غاية وعن كلّ مصلحة وعن كلّ أجر، ومن يدقّ باب الحقيقة بمثل هذه اليد الناصعة يُفتَح له على الدوام.

الإخلاص ليس هو إذًا كلّ شيء، التجرّد هو كلّ شيء. نيرون كان مخلصًا وبيلاطوس كان مخلصًا ولويس السادس عشر كان مخلصًا، وكذلك بين الأقوياء بونابرت وموسوليني وهتلر كانوا مخلصين. الإخلاص صفة الأقوياء والطغاة والضعفاء على السواء.

الإخلاص وحده يتطوّر ويتبدّل وفق تبدّل العواطف والأفكار والصور الحسّية، التجرّد وحده لا يتغيّر ولا يتبدّل.

الشباب في لبنان وفي البلدان العربية قد بلغ معظمهم مرتبة الإخلاص لا مرتبة التجرّد وهذا سرّ مشكلتهم ومصدر عجزهم وتفسير عدم نضجهم وثباتهم. يعملون وفق حسّهم العفوي وفكرهم الآني ونزوات إرادتهم المؤقتة هم مخلصون ولكن لا جدوى في إخلاصهم إذا لم يرتفعوا إلى درجة التجرّد.

الأدباء والشعراء في بلاد العرب مخلصون، هذا الإخلاص الأناني الفردي الذي نعني، وليسوا هم متجرّدين. وهذا هو سرّ‍ فراغهم من كلّ توجيه ومن كلّ تحقّق إنساني، وهذا هو مصدر عقمهم وبوارهم. إنهم يعيشون في خيال أحاسيسهم الفيزيولوجية وفي ما يأتي فوقها بقليل من العواطف البدائية والإدراكات الأولية. إنهم مخلصون، ولكن ما قيمة هذا الإخلاص وما جدواه في تجلّي الحقيقة؟ الشعوب العربية عمومًا تتوجّه اليوم نحو مفهوم الإخلاص.

بداهة، نلاحظ أنَّ كلمة الإخلاص هي أكثر الكلمات شيوعًا على شفاه الناس، يستعملها الصادقون والدجّالون على السواء، القادة الشعبيون والطغاة والحكّام.

كان يقول كيزرلينغ عن الشعوب العربية إنها تعيش في مستوى ذهني هو أعلى  بقليل من مستوى الذهنية الحيوانية ـ في مستوى الذهنية "السحرية"                 La Mentalité Magique ، أي في مستوى الأحاسيس الأولية والتصوّرات البدائية والتفكير الصوري الحسّي. فلا عجب أن تتقسّم البلاد العربية شعبًا وفرقًا، مذاهب وتحزّبات ودولاً متعاكسة متطاحنة، ولا عجب أن تتآكلها الذهنية البيزنطية والسفسطة، وتجذبها ضحية المجد الفارغ والمال والشهوة الوصولية، ولا عجب أن تستثمر من قبل الأجانب ومن قبل الحكّام كما تستثمر في حاضرها.

ويزيد اليوم في قيمة هذا الإخلاص العفوي "الحيواني"، الذي يتمسّك به الكثيرون من شبابنا ويتمرّسون فيه، أنه يأتيهم، كسائر المستحضرات من أوروبا، الإخلاص في نظرهم من مقوّمات الحضارة الغربية، من مستلزمات الحضارة.

أتمنّى أن يعبر شباب بلادي وشباب العرب وشباب أوروبا أيضًا مرحلة الإخلاص وأن يتوصّلوا إلى التجرّد. إذ ذاك يستطيعون أن يبنوا وأن يساهموا في تعمير مجتمعهم على أسس لا تزعزعها العاصفة ولا تقلقلها المياه الدفينة، يبنون كمن يبني على صخر ركين لا على رمال مائعة.

لقد شيّدت أوروبا الحديثة مؤسّساتها على الإخلاص دون التجرّد. فكان خلاصهم خرابًا وحربًا واضطهادًا وتشتيتًا.

إنَّ أمثولة أوروبا، في هذا الشأن، ظاهرة بيّنة، فعلينا أن نعتبر بها لا أن نقلّدها متجاهلين متعامين مخلصين.

على الرفاق التقدّميين الاشتراكيين أن يتجرّدوا فيشيّدوا أعظم ممّا شادته أوروبا من معالم ظاهرة وأرفع بكثير ممّا أنتجته من قيم معرفة وخير وجمال في ظلّ حضارة لم يعزها الاستقرار وتنقصها كرامة الإنسان الحقيقية، كرامة العدل والمحبة.

على الرفاق التقدّميين الاشتراكيين أن يتّخذوا رمزًا لحياتهم ولموتهم شهادة التجرّد. فشهادة المخلصين عبرة لغيرهم ومعذرة لهم وشهادة المتجرّدين المتطهّرين الأبرار مثالية وقدوة وطريق.

 

كمال جنبلاط

الأنباء، 28/3/1952

 

 

Home

Up one Level