على هامش قانون الأحوال الشخصية

رجال الدين والدولة

 

لرجال الدين في هذا البلد مشكلة مع أنفسهم ومشكلة مع الناس ومشكلة مع الدولة. ولا تعنينا هنا إلاّ مشكلتهم الأخيرة، أي مشكلتهم كمواطنين.

وخلاصة هذه المشكلة ـ من هذه الوجهة، ومن جهة المواطنية، من وجهة الدولة ـ أنَّ أكثر رجال الدين هم في هذا البلد رجال سياسة لا رجال دين، أي يتعاطون السياسة بذهنية وبأساليب "السياسة" كما اصطلح عليها الكافرون بنعمة الدين، أي بذهنية أكثر السياسيين القائمين، بذهنية المصالح الخاصة لهم، أو لهذا أو ذاك، لا بذهنية صلاح القرآن وبطولة الإنجيل. ويستخدمون الأساليب نفسها، أساليب الذين لعنهم نبي القرآن ومعلم الإنجيل، لا تستطيع أن تعبد ربّين: الله والمال (أي كلّ ما ينبثق وينجم عن المال من سلطة ونفوذ زمني ـ أي اجتماعي وسياسي واقتصادي ـ ومن مثالية وأنانية).

يبرز رجال الدين، في أحاديث الناس وفي تفكيرهم وفي سعيهم في مختلف نشاطاتهم، في مناسبات ومناسبات.

يبرز رجال الدين ـ قلّة منهم ضئيلة ـ في حقل الورع والقداسة والبطولة الشخصية والزهد بالأعمال وبنتيجة الأعمال. فهم الأولياء الأصفياء والقدّيسون المتطهّرون والنسّاك المتوحّدون في الصمت مع "إله الصمت". فسعيهم صلاة وصلاح، ومثلهم صلاة وصلاح، وسكونهم صلاح، والقرب منهم اقتباس وتنجية وصلاح، وصمتهم في مجاهل انزوائهم وعزلتهم ووسط جهل الناس لهم، صلاح، لأنَّ قوة الفكر وقدرة التحوّل التي تنبعث من الذين أدركوا الحقيقة أو أدركوا شيئًا منها، لا تنحصر في نطاق الجسد والأشياء بل تتعدّى محدودية المدى والشخصية والزمان، سيّان أَجهلهم الناس أم عرفوهم. وقد يكون المستترون منهم الصامتون أجدى في تطوير الخليقة من سواهم من الظاهرين. كان يقول فيفيكندا: "إنَّ جدران الكهف وحواجز الجبال والأودية لا تستطيع أن تقف حائلاً في وجه أربع أفكار أدرك حقيقتها كائن بشري. إنَّ قوة الفكر المنفتح إلى الحقيقة تتعدّى وتجتاز كلّ عقبة في هذا الوجود. إنَّ أعظم الرجال وأجداهم هم الذين جاؤوا وذهبوا صامتين".

هذه القلة الخيّرة الضئيلة هي في الواقع ملح الأرض. فإذا فسد هذا الملح فبماذا يملّح؟! على مستوى هذه النخبة يتوقّف لحدٍّ كبير مستوى الجماهير. ومقياس النخبة لا يقوم في قدرة الجسد ولا في قوة الفكر ولا في العلم كما يتصوّره الكثيرون. الفكر حيادي بحدّ ذاته، لا قيمة مناقبية جوهرية له في بدايات تحقّقاته ومراحله، وأكثرهم يتوقّف عند هذه البدايات. النخبة هي نخبة الروح، نخبة المناقبية، نخبة التمييز السديد، نخبة المعرفة الصواب التي تتعدّى مستوى "علمنا" الجاهل المتأخّر.

والحقيقة المؤلمة الجارحة التي لا بدّ من إعلانها، أنه لولا فساد رجال الدين ـ فساد كثرتهم ـ لما فسد ملح الأرض، لما فسدت الجماعة، كما هي الحال في زماننا، وبخاصة في بلادنا. "أيُّها الكارز المصلح، اصلح نفسك".

ويبرز بعض رجال الدين ـ في أحاديث الناس وفي تفكيرهم وفي سعيهم ـ في حقل نفع الغير، خدمة الغير، أي أعمال البِرّ والإحسان وإنشاء المستشفيات وغيرها من المؤسّسات التي هي، في مفهومنا، من أروع ما يحاوله الإنسان في حقل التجرّد. نذكر للمثل، بكل خشوع، تلك المحصّنات الزاهدات حقًّا، إلى أيِّ طائفة انتسبن، الحانيات على المرضى والجرحى والأطفال والأمّهات والشيوخ، ونذكر الأب يعقوب وغير الأب يعقوب من المعروفين والمجهولين ـ ويا ليت لنا يعاقبة كثيرون على هذا الشكل ولو أدّى بهم الأمر إلى الهرطقة ـ من الذين يعملون بصمت وتواضع حقيقي وإدراك فهيم لواقع الحياة البشرية وحقيقة الألم.

يعملون بإدراك فهيم لواقع الحياة البشرية، من حيث إنه لا يمكن إزالة الألم، القضاء على هذا الألم في هذا الوجود الظاهر وفي هذه الحياة التي تكتنفها الازدواجية؛ والألم كالفرح طريق في سبيل تطهير نفوسنا، ولولا وجودها لما استطاع الإنسان أن يرتفع فوق مستوى نفسه، فوق مستوى الحيوانية، أي الإنسانية البدائية فيه.

وهؤلاء يعملون بإدراك فهيم لحقيقة العمل البشري من حيث العمل البشري الموجّه لخدمة الغير، من حيث إنَّ الخدمة البشرية ليست هي في الواقع إلاّ وسيلة في خدمة أنفسنا. العمل البشري تضحية مستمرّة، تضحية بانعزاليّتنا، بأنانيّتنا الفردية. العمل إذًا وسيلة لكي نزيل هذه الأنانية، وسيلة لتطهير أنفسنا، للارتفاع بأنفسنا. من يعتقد أنه يخدم الآخرين بتضحياته، بعمله، بخدمته، فهو أجهل العاملين في حقل هذه الدنيا وأقلّ المأجورين في حقل الآخرة.

ماذا تستطيع أن تعمل في سبيل الآخرين: أَلقمة خبز تعطيها، أو درهمًا تبرّ به، أو آلامًا تبرّد عنها، أو تعزية، أو تموت في سبيل غيرك؛ إنْ هي كلّها إلاّ مظاهر ضئيلة وساذجة ومتواضعة جدًّا لعطاء ذاتك، للحبّ في ذاتك. إنْ هي كلّها إلاّ مظاهر ومناسبات لكي تظهر هذا العطاء، لكي تحقّق هذا العطاء، لكي تنمّي هذا العطاء، هذا الحبّ في روحك؟! وإذا تصوّرت غير ذلك فأنت مسكين حقير يا صاحبي من مساكين هذه الدنيا.

إنَّ العطاء الحقيقي، العطاء الذي له قيمة، هو إعطاء الحقيقة للآخرين، هو عطاء الحقيقة. ولكن هل يستطيع أن يعطي الحقيقة إلاّ أولئك الذين توصّلوا إلى الحقيقة، وهم قلّة نادرة؟!

من يستطيع أن يدلي حبلاً ليرفع الآخرين إلى سطح البيت إلاّ إذا صعد أولاً إلى سطح البيت؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! وإذا ما علمنا أنَّ العمل البشري وسيلة لا غاية، كما يتصوّرها "الغرب في دورانه على ذاته المنعزلة الأنانية"، الغرب "المتعذّب" المتألّم والمتعامي نتيجة لهذا التصوّر ذاته، إذا ما أدركنا أنَّ العمل البشري وسيلة لا غاية ـ وسيلة لتطهير أنفسنا، للارتفاع بأنفسنا ـ توصّلنا إذ ذاك، أولاً: إلى التجرّد عن الأنانية والكبرياء وحبّ الظهور في العمل، وأدركنا من جهة ثانية حقيقة الحياة التأملية ـ حياة المشاهدة والزهد بالعمل ـ وأنه يجوز أن يكون هنالك أشخاص لا يعملون لأنهم ليسوا بحاجة إلى العمل، لأنهم تعدّوا مرحلة العمل التطهيري. فإن عَمِل بعضهم فكفيض للخير والنعمة والحنان في صفوف جنبات روحه. إنَّ رجال الدين هؤلاء وسواهم الذين يعملون بهذه الروح، بهذه الذهنيّة التي تتدرّج من العمل المحض تحضيري إلى العمل الفائض كاستزادة من ذاته، قد اندسّت في صفوفهم، ويا للأسف، فئة كبيرة من الذين يعملون في سبيل العمل، في سبيل الأنانية، في سبيل الظهور، في سبيل الأجر الزمن أو الآخرين، في سبيل الصيت والثواب. فإذا بنا نقرأ لهم في الصحف البيانات والبرامج لما فعلوا ولما سيفعلون، وإذا ببعضهم يسعى لاقتناص النياشين "المتَنْكة" وللحظوة بالجلوس إلى موائد عظماء هذه الأرض وللمكافأة في قيام المهرجانات والاحتفالات واليوبيلات، وما شاكل...

وهذه الفئة لا تتورّع أن تساوم مع أصحاب السلطان للحصول على ما تحتاجه من مال لمشاريعها وسعفة لأعمالها ـ أموال غرش الفقير وغيرها ـ مقابل سكوتها طبعًا عمّا تراه في أصحاب السلطان من الانحراف عن المناقبية وعن النهج السديد السويّ؛ والمناقبية هي واحدة، أكانت مناقبية المسيحية أم مناقبية الإسلام والدروز والبوذيين، وغيرهم...

والمساومة تصبح تحزّبًا ذميمًا عندما يقابلها السكوت عن الحزبية العادمة الحقود، والمساومة الحقود تصبح رشوة عندما يقابلها السكوت عن الرشوة، وتصبح ظلامة عندما يقابلها السكوت عن الظلم والظالمين. وتصبح المساومة والانتفاع، ولو لـ "مجد الآخرين"، كذبًا محرّمًا وتدجيلاً محطًّا عندما يقابلها السكوت عن الكذب واللصوصية والتدجيل، وتصبح المساومة إجرامًا عندما يقابلها السكوت عن الإجرام.

المساومة في الدين هي كالمساومة في السياسة لا يبرّرها إلاّ توافق القصد وتكافؤ النيّات في الخير وفي الصلاح، ولا يبرّرها السكوت عن الرشوة والإجرام والظلامة في الحالتين، وإلاّ فهذه مكيافيلية وتلك مكيافيلية أيضًا.

إنَّ العمل في سبيل المكافأة، في سبيل الصيت، في سبيل الأجر، أي في سبيل العمل هو الذي يغشو على بصيرة المؤمن، فيحجب عنها إيجابية الدين الضرورية في جميع حقول النشاط البشري. العمل في سبيل الأجر، أي في سبيل العمل هو الذي يغشو على بصيرة المؤمن، فيحجب عنها إيجابية الدين الضرورية في جميع حقول النشاط البشري. العمل في سبيل الأجر، في سبيل العمل، هو الذي يوحي إلى النفس مبرّرات وأعذار السكوت عن الجهل والظلامة والرشوة والإجرام، ويدفع بالمؤمن، دون أن يعلم، في طريق الضعف، في طريق المساومة، في طريق التخاذل وانعدام مقاومة الشرّ الظاهر.

هذه الفئات من رجال الدين التي ذكرناها هي القلّة. أمّا الكثرة من رجال الدين وبخاصة من المسؤولين فيهم، فهي تتعاطى مباشرة الأمور الزمنية، تتعاطى شؤون النفوذ والسياسة.

فيبرز رجال الدين هؤلاء في أحاديث الناس وفي تفكيرهم وفي نشاطاتهم، في الظهور على مسرح الاجتماعات الجماهيرية الدنيوية، على مسرح السياسة، على مسرح الحقوق السياسية الطائفية ـ أي لتعيين هذا أو ذاك من أرباب الطائفة ـ على مسرح السرايا والمجلس النيابي، على مسرح بقاء القديم على قدمه، على مسرح المطالبة المؤقتة بحقوق الشعب، ومن ثمّ على مسرح المفاوضة مع أرباب الشأن. فعلى مسرح زيارة القصر والتشرّف بمقابلة المديرين والوزراء والعزائم على موائد أصحاب الفخامات وغير الفخامات، على مسرح القبول والرضوخ للأمر الواقع ـ لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم، أتقاوم العين مخرزًا؟! ـ على مسرح المساومة في سبيل المصالح، على مسرح الأخذ والعطاء. رأس الحكمة ليس مخافة الله. رأس الحكمة هو "الاتفاق والوئام" على لغتهم، أي المفاوضة والسكوت والمساومة.

ورجال الدين هؤلاء ـ رجال سياسة لا رجال دين ـ أخذوا يتحوّلون، أخيرًا من خلال مطالبتهم بالحفاظ على حقوق محاكمهم المذهبية ـ وهي مطالبة مشروعة بالنسبة إليهم لا بالنسبة للواقع والقانون والدولة ـ أخذ هؤلاء يتحوّلون إلى إثارة النعرة الطائفية والحقد الطائفي والتعصّب والتفرقة الطائفيتين باسم هذا الدفاع عن حقوق محاكمهم ـ وقد خلطوا في تعاميمهم بين حقوق محاكمهم وحقوق الطائفة. ولا يمكن للطائفة كطائفة أن تكون لها حقوق تشريعية وسياسية أو قضائية بالنسبة للدولة ـ ولا يمكن أن يقوم ضمن الدولة الواحدة إلاّ قضاء واحد وتشريع واحد.

هذه النعرة الطائفية هي أبشع ما نشاهده اليوم في هذه الخطب والتهويشات التي يقوم بها البعض. ولو أنها تدلّ على ضعف حجّة المطالبين بحقوق محاكمهم. فلولا ضعف هذه الحجّة لما لجأوا إلى إثارة القضية من وجهة حقوق الطائفة.

على كلّ بصير مؤمن في هذا البلد أن يقضي على هذه النعرة الطائفية المفرّقة الرجعية الانهزامية الحقود، لا لخطرها ـ لأنَّ معالم الضعف ظاهرة فيها وناجمة عنها ـ بل لسمعة هذا البلد فقط.

وعلى رجال الدين المبصرين المدركين أن يبصروا وأن يدركوا ما يبصره ويدركه أكثر السذّج والجهلة في هذا البلد، من أنَّ هناك ساحرًا لاعبًا واحدًا خلف الستار يحرّك هذه الخيوط ويحرّك تلك، ويلعب بهذا البلد، ولا يتورّع من هذا اللعب الخطر بعد أن فقد بتصرّفه الخاطئ مرتكز الحكم الأساسي:

ثقة المواطن بحاكمه، ثقة كلّ مواطن...

 

كمال جنبلاط

الأنباء، 4/4/1952

 

 

Home

Up one Level