القوّة المعنوية والسلم

 

إن العالم عبر تاريخه الطويل الملتوي، لم يعرف السلم أبدًا، إلا في حقبات نادرة تبدو لحظات في تحوّل العصور الزمنية.... وغالبًا ما كان ذلك يشمل بعض المناطق الواسعة. ففي البحر المتوسط، مثلا، كان السلم نتيجة قهر تشريعي أو إكراه قانوني Coercition légale قيام امبراطورية كبيرة وتوسيعها: السلم الروماني Pax Romana  الذي تلاه، مباشرة، السلم العربي  Pax Arabica، حتى سقوط العاصمتين العباسية والفاطميّة.

وعندئذ شهدت مناطق أخرى هذا السلام العالمي المحدود، الشامل جماعات من الأمم والشعوب التي كانت تعيش في نطاقها. لأن العالم كان حينئذ سلسلة من عوالم صغرى، يعيش بعضها عند تخوم البعض الآخر، هي عوالم مغلقة تعيش في سلام داخلي، دون أن تتعارف أبدّا فيما بينها.

وفي خلال فترات قصيرة، عرفت الهند والصين هذا المفهوم للقومية الإنسانية Nationalisme Humaniste في الامبراطورية العالمية والملك الكامل والعادل،  ربما قبل وربما في وقت واحد مع ظهور فرعون مصر آخن آتون khen    Atonالذي جعله موضوع عهده وقصائده وعقيدته السياسية وديانته وحياته.

ومن هؤلاء الأباطرة الخرافيين في بلاد النهر الاصفر العتيقة، في الهند، ومن ملوك اشوكا  Asokaياناكا  Janakaأكبر Akbar وسواهما، انتقلت فكرة الملك الكامل/ الإنساني/ العادل إلى القرون الوسطى المسيحية ولم تزل حتى الآن تراود فكر الشعوب (Bréhier إميل برهييه).

والحال، فإن قدوم الذرّة إلى عالم عتيق جدًّا، مع كل مخاطر الدمار الشامل أو التسميم العالمي على مدى طويل، يبدو أنه قد قذفنا مجددّا إلى طلاسم ذاكرتنا التاريخية، وأنه يعيدُنا، ولو للحظات، إلى ثقافتنا الكهلة، كزيارة نقوم بها إلى بيتنا العتيق، محاولين إيجاد دواء فيه لقلقنا الحالي.

لا يمكننا هنا إلا أن نرجع إلى الملاحظة التي سجلها واحد من أكبر المفكرين المعاصرين، الأب تيلار دي شاردان لدى انفجار القنبلة الذرية الأولى:

1ــ إن القنبلة الجديدة التي ألقيت بكل أسف على ناغازاكي وهيروشيما ولدت لدى الإنسان قوّة معنوية/ أخلاقية جديدة وأثارت عزمًا على التحدّي النفسي والروحي لدى الجماهير البشرية، لم يكن معروفًا في الماضي ولا يقبل المقارنة؛ عزمًا يكاد يكون في مستوى الرعب الذي ولده السلاح الذرّي ذاته، وذلك بدلاً من إرهاب الإنسان وشلّ إرادته بالخوف.

وان هذا الموقف من التحدّي النفسي والروحي أخذ يكبر حتى في البلدان التي سمحت حكوماتها بولادة هذه الوسيلة التهديميّة الكبيرة والشاملة.

إنها لعبة، وباسم هذا الوعي الأخلاقي الذي انبثق في آسيا أولاً، تتخذ ندوات كهذه معناها ومداها الإنساني، في ما يتعدّى كل الحدود والقيود العرقية واللونية أو الدينية.

إن وعيًا كونيًّا مماثلاً هو الذي يحملنا على معاودة النظر في المواقف المتخذة وفي المبادئ أو الأحكام الشائعة  Préjugésالمعتمدة، مع ردّنا على بعض التجارب التاريخية المعروفة تمامًا.

أ ــ القومية  Nationalismeمثلما ظهرت كتطور وتفكّر للأنا الفردي في الجماعة، إنما هي تصور فاسد من تصورات الحياة السياسية الحديثة، وإنما يتعيّن علينا أن نوجه حكوماتنا أو شعوبنا نحو قومية عالمية وإنسانية. فالأنانية الجماعية هي، كالأنانية الفرديّة، الخطيئة البدائية لتصوراتنا وحضارتنا.

ب ــ كشف تطور الإنسان في هذا العصر الذي نعيش فيه، عن ولادة أو نمو نمط إنساني جديد، كان تيلار دي شاردان يسميّه: الإنسان التقدمي Homme progressif المتحرّر من عدد كبير من التصورات والابتسارات الموروثة عن الأسلاف. ويقع كل كاهل هذا النوع من البشر في كل بلد، أن يعاود صنع الوحدة، في ما يتعدّى الحواجز، ونشر عدوى الإنساني الآخر، الذات الحقيقي فينا، بعدما حاولت المعتقدات والممارسات كافة، وضلالات الأنانية والشخصانية Personnalisme المُساء فهمها، أن تخنق الإنسان في الإنسان.

يبيّن لنا التاريخ، بكل جلاء، إن مؤسسة على المستوى العالمي تكون وحدها قادرة على حفظ السلم بين البشر. وعلى صعيد الأمم المتحدة Nations Unies  U.N.سيتوجب، أخيرًا، أن تقوم هذه المنظمة بالاكراه القانوني، ربما كمقدمة لبرلمان الشعوب العالمي الذي سيحمل في ذاته وعدًا بقيام حكومة كونفدرالية عالميّة.

إن هذه القوة المعنوية العملاقة التي أجاد غاندي استعمالها في النطاق القومي ــ الوطني هي الآن في متناولنا على صعيد الكفاح الدولي. فهذه القوة المعنوية تنبثق بقوّة أوضح وأعظم في الحاضر، كما لو كانت ردًّا وصورة معاكسة للطاقة المادية اللأخرى المستخلصة من تحرير الذرّة.

كما لو كان تحرير الطاقة النووية قد حرّر الطاقة الروحية فينا، إذا جاز القول، ويقع على كاهل البشر من ذوي الارادات الطيبة ان يكشفوا ذلك.

فاللاعنف  Non - Violanceلا يعبّر تمامًا عن مفهوم " القوة المعنويّة" فهو ليس سوى واحد من أشكالها التطبيقية.

القوة المعنوية هي روح الساتيا  Satyaأي روح الحقيقة المرتبطة بإرادة عدم أذى  Non - injuryالآخر قدر الامكان. لأن في كل فعل، ثمة جانبًا من الأضرار التي تلحق بالآخر.

في هذا المعنى، يعتبر العنف  Violanceأيضًا وجهًا آخر للقوة المعنوية، شرط أن يصدر عن الساتيا ومضامينها الأخلاقية، وإننا نفتكر هنا في الوجه الآخر للميدالية  Médailleنفتكر في أرجونو  Arjunuالداخل في المعركة الدامية، والقائم هو أيضًا مع ذلك، بأداء فعل من أفعال الساتيا، أي فعل بشري.

وكان واحد من الأصوات الأكثر صدقًا في الهند قد كشف لنا ما يلي:

You must be non - Violant so for. But if non - violance don’t give any result, be violant dont be.

" يجب ألا تكون عنيفًا إلى حد بعيد، وإذا لم يعطِ اللاعنف أية نتيجة، فليكن العنف".

سيتعين على هذه القوة المعنوية إعلام قوميتنا التي لن تعود، عندئذ، توسعًا سلبيًا للكيان وموقفًا تغالبيًا لاثبات ذاتنا وتمييزنا من الآخر، بل محاولة تحقيق إيجابي لواقعنا ولحقيقتنا نحن بالذات.

 

 

كمال جنبلاط

 

 

Home

Up one Level