التربية المدرسية والاجتماعية

بقلم كمال جنبلاط

 

إن التربية لا تنفصل عن كينونة الإنسان، أي عن تفتح مقدوراته وتصوره شخصا ومواطنا وعقلا متقصيا ومتفهما ومنظما ومبدعا، وقلبا ينبض ويتحسس بأرفع مشاعر الحياة والمحبة الجامعة لها جميعا.

والشعور لا ينفصل أبدا عن العقل، فكلاهما وجه وكشف ومظهر لحقيقة الإنسان ذاته وطريق ونهج للوصول إليها. وقديما قيل: الإنسان يدرك بالعقل ويفهم بالقلب. وهذا العقل والشعور الملازم له والمنبثق من مصدره ومن ينبوع تنزله بفرض العناية به والأقدام الدائب على تنميته وصقله وابراز مقاييسه ومعاييره، وفق ما توحي به أصالة الشريعة الطبيعية الدفينة وما يستنبطه العقل منها في تفاعله مع أغراض الحواس.

المرحلة التي نمر فيها في سياق التطور القائم تفترض هي أيضًا العودة إلى مواجهة التربية المدرسية والاجتماعية مواجهة جديدة جدية، فيما نعانيه من انفلات مقاييس المدنية وفوضى توجهاتها وعماهة ما ينشره ويعممه الاقتصاد الرأسمالي التجاري المتحكم بمصير الشطر الأكبر من العالم. ولأول مرة ربما في التاريخ ونتيجة لهذه المفاهيم الخاطئة للحرية الفردية وللحضارة وللتمتع وللعيش، يشهد الإنسان المعاصر هدم التقاليد وانهيار علاقاته بالعائلة وبالمجتمع وبالتراث وبالتاريخ، في سرعة مذهلة من التبدل والتطور تفسرها فعل الإذاعة والسينما والتلفزيون والكتاب، وانعدام التربية في المدرسة الحديثة وتفاقم الملاهي وفسادها وابتعاد الإنسان عن الطبيعة وسيطرة الالة المتزايدة والدعاية التجارية على حياته، وانفصاله أكثر فأكثر عن التعاليم الخلقية والدينية وعن التقليد السليم. والتربية المدرسية لا تنفصل أبدا عن التربية الاجتماعية والمدنية. وقد نسينا أو تناسينا على ضوء بعض المفاهيم الخاطئة للعقائد الديموقراطية ان الإنسان يظل تلميذا طوال أيام حياته ويكمل تهذيبه وتثقيفه ما زال حيا... ويجدر في هذا السعي والاتجاه والمواجهة أن نعود إلى المفهوم الشرقي واليوناني الأصيل لمفهوم التربية، فندرك أنها يجب أن ترافق الإنسان منذ نشأته حتى وفاته، فتلازمه دائما وأبدا كشرعة حياته ذاتها ــ ولا تتوقف عند بلوغ الفتى سنا معينا ــ وكيف يستقيم أمر الجماعة وتستوي شؤون العائلة والمهنة والمجتمع والدولة والبشرية إذا لم تتوفر للإنسان المواطن هذه الاطارات المعنوية وهذه الضوابط من الشرائع والتقاليد السليمة، وهذه الاقنية من العادات والتصاميم الصحيحة النابعة من التجلي الدائم للإنسانية في هذا الحيوان الناطق.

وإن لم تتخذ الدول والشعوب الحيطة في معالجة شؤون التربية وتنقية أجواء المجتمع العسري وإخضاعها للتوجيه المناقبي والروحي الصحيح، فإن العالم سيشهد انهيارا شاملا للمجتمع وللإنسان وللحضارة، وستقع كارثة اخطر واشد فتكا من الحرب النووية ذاتها. ولن يفيد إذ ذاك التلهي بنتاج التطبيقات العلمية الأخيرة، والتسلي بمقدورات المدنية المادية... لأن الروح الإنسانية تكون قد غادرت سطح هذا السيار المتجول لتترك أبناءه فريسة للتناقض والتناحر والكبرياء والأنانية ومرتعا للشقاء والضجر والفوضى، تماما كما نتخايل كوكبًا جامدا ميتا قبل موت ساكنيه... وهل يعيش الإنسان حقا إلا بما فيه من روح إنسانية متألقة متفتحة نامية عامرة؟!

 

في 16/ كانون الأول/ 1965

 

 

Home

Up one Level