نحو قوة ثالثة

 

تاريخ فكرة و حركة

     كانت بذور الحزب التقدمي الاشتراكي موجودة في فكرة قديمة راودتني منذ أكثر من عشر سنوات، وعبرت عنها في العديد من الخطب والرسائل ( الكلمة التي ألقيتها لمناسبة نهاية السنة الجامعية في كلية الحقوق ، الرسالة الى الجنرال كاترو . . . الخ ) وخاصة في التمنيات التي وجهتها لمناسبة السنة الجديدة في مقال نشر في مجلة " الريفودي ليبان " ، بتاريخ 31 كانون الاول 1944 حيث قلت بالتحديد :

      " انني أتمنى ان نكتشف ( بعد هذا الفشل المروع الذي أصاب الانظمة البرلمانية هنا ، كما في فرنسا ، او ايطاليا ، او المانيا (Weimar ) الغيمارية وفي العديد من البلدان الاخرى ) أتمنى أن نكتشف هذه الصيغة الجديدة للديموقراطية ، التي يتوق اليها العالم وهي صيغة ( ربما اجتماعية ) من شأنها ان توفق بين : الانضباط والحرية ، النظام والتطور، التقليد والتقدم ، الدين وعملية فصله عن المستوى الزمني ، الاشتراكية و الملكية الخاصة كما يمكنها ان توفق على مستوى أرفع بين المثالية والواقعية وبين الروحانية والسياسية ".

     ولقد تم تعميق هذه الفكرة المتعلقة " بصيغة جديدة للديموقراطية " في مقالات تم نشرها في" دفاتر الشرق" وفي محاضرات القيت في " الجامعة الاميركية " وفي " الندوة اللبنانية " .

     ولقد عادت هذه الفكرة لتصبح مدار بحث جماعي قام به بعض الاصدقاء ( من موظفين وعمال ومثقفين ) على امتداد بضعة اشهر متتالية ( صيف 1946 ) . . ولقد شارك استاذان جامعيان في هذا العمل : السيد سعيد حماده الذى كان له الفضل في ايجاد بعض الصيغ الموفقة ذات الاتجاه الاشتراكي ، والسيد جوزيف نجار الذى قدم مساهمة واسعة في القسم الاقتصادي و الثقافي من الميثاق .

   ولقد شارك العديد من المثقفين اللبنانيين ومن مختلف الاتجاهات و الجماعات في بلورة الفكرة . ثم كانت مرحلة من التوقف لتعميق الفكرة وللقيام بالنقد الذاتي .

حزب الانصهار

     لقد تم بادىء الامر فصل الفكرة عن قشرتها ( وهي قشرة قومية بالطبع ) . . في بلد لا كلام فيه طوال اليوم الا عن العروبة و " اللبنانية " .

    ثم تم ربط أطراف الفكرة ببعضها ،وتحويلها الى عقيدة مترابطة في جسم متماسك تنصهر فيه الاجزاء متناسقة في تركيبة عضوية حية وذلك رغم الاصول المختلفة لهذه الاجزاء وانتمائها الى ثقافات متعددة والى تجارب تاريخية متعارضة في مظاهرها .

   وفي عرض علمي استبق العقيدة نفسها تم ربط " الفكرة بأكثر نظريات التطور البيولوجي و الاجتماعي عصرية وتقدما ، كما تم الحاقها بالعناصر الاخرى الاساسية المستمدة في العلوم والوضعية في حقول المادة ، والروح والتي اعتمدنا مبدئيا نتائجها وتطوراتها النهائية ( البند الاول الفقرة 3 من الميثاق ) .

  ان فكرة الحزب التقدمي الاشتراكي هي ، في نموها وتطورها وتبدلاتها وتكوينها المتنوع و الكادح ، هي محاولة صهر الفكر و التجربة الانسانيين . ان الحزب التقدمي الاشتراكي هو حزب الانصهار ، اذا ما عدنا الى المصطلحات الهيغلية . . .

   ان حزبنا قد ولد تحت علامة انشطار العالم المشؤومة ، الى كتلتين ايديولوجيتين متصارعتين رغم تكاملها الفعلي لكنه يطمح لكي يكون فكرة كاملة . لا نريد ان نكون شموليين لكننا لن ننكر او نرفض اى عنصر من التراث الثقافي والفكري او اى تجربة بشرية .

 

  طور التجمع البشري الكلية (2)

   اذا نظرنا الى الظواهر الكلية من زاوية اخرى ( زاوية نمو الجنس البشري التسلسلي التطوري ) يتبين لنا ان هذه الظواهر ( على عيوبها ) ليست سوى اشارات ومراحل محددة في اطار الخط الاساسي للحركة الكونية وهي تجسد ، لاول مرة على الصعيد البشري مرحلة التجمع و التكتل الجماعي التي يبدو ان الجنس البشري قد بلغها .

   وبعد تكاثره بما فيه الكفاية " الا ينزع الانسان الى الانضمام الى امثاله ليشكل معهم كلا عضويا متميزا الى هذا الحد او ذاك ؟ او ليس هذا التكتل على المستوى الانساني نوعا من التكرار لتجربة المرجان والازج و المنملة و القفير ؟ "

   " يقول دو شاردان (DeChardin) " تبدو الانسانية تقترب فينا من نقطة التجمع البشري الحاسمة " .

  ومن هذه الوجهة (أي من وجهة التطور ) فان التجارب الكلية الشيوعية او الفاشية التي لعبت دورا ايجابيا في سبيل تقدم التاريخ باتجاهنا ، تصبح انحرافات تذبذبية ، متطرفة

وهائجة ، وبالتالي ليست سوى مراحل من التطور ، تخطاها ويتخطاها الزمن اكثر فاكثر . وتجدرالاشارة هنا الى ان الزمن قد تخطى ايضا ،وبالطبع ، مراحل الرأسمالية الغربية او الاميركية ، والمحاولات السان سيمونية St.Simoniene الخمولة او الاشتراكية البورجوازية وكل ما الى ذلك من صيغ الديموقراطية الاصلاحية او ذات الطابع الابوي .

    ان الصراعات الطبقية والعقائد العرقية او القومية الطبقية ليست سوى حقبات او مراحل من التطور التاريخي التذبذبي ، التعددى ، المتباعد ، وهو تطور ينزع اكثر فاكثر الآن ولاسباب بيولوجية وعوامل تقنية معروفة ، الى الاستقامة و التوارد والتركز على نفسه بشكل حزمة ليأخذ طابع وأحدية (3) قد تتطور عمقا واغتناء الى ما لا نهاية .وليس في ذلك شىء يدعو الى الاستغراب لان الحقيقة هي في النهاية واحدة رغم اشكالها المتعددة والمتنوعة .

قوة ثالثة توشك على الولادة

   نحن نطمح ان نكون هنا السباقين ولتحقيق وصنع هذه القوة الثالثة العالمية الايديولوجية و السياسية ، وذلك على غرار بعض الاحزاب الديموقراطية الاجتماعية في اوروبا واميركا او بعض الاحزاب العمالية في الشرق الاقصى . وهذه القوة الثالثة سوف تقوم بالضرورة على انقاض الاعمال الهدامة و الانقسامات و الاحقاد و الاوهام التي يتحمل مسؤوليتها التيار العقلي المحض .

   أما على اصعد اخرى  كالصعيد الاجتماعي مثلا فنحن نريد ان ندفع الى اعادة التوفيق و التوحيد في المجالين الاجتماعي والانساني على قاعدة الاخاء والعدالة والتعاون والمساواة الوظيفية . وفي هذا الاطار سوف يتحول المجتمع ، والدولة بالتالي  الى نوع من " الجسم الحي " يكون لكل مواطن فيه وظيفته على اساس قدراته الذاتية وعقله ودماغه وقلبه وليس بفضل امتيازات عائلية او بفضل ثروته او انتمائه الطبقي . أي ان المجتمع سوف يكون مجتمعا بلا طبقات ، سوف يكون مجتمعا تعاونيا بين المواطنين والتكتلات الجماعية وليس مجتمعا مزدوج الرأس تكون سمته الاساسية الصراع بين المصالح و التجمعات .

   نحن نريد ان نكون حزب التجمع والصهر والتوحيد الاجتماعي والانساني تحت عنوان الايمان بالتطور ( أي الايمان بالحياة والانسان ) والقوة المعنوية والمحبة .

لدى آسيا ما تعطيه

   انني اعتقد شخصيا ان لدى آسيا أرض المسيح ومحمد وكونفورشيوس وبوذا شيئا تعطيه للعالم وهذا الشيء يختلف عن المادية البورجوازية او المادية الجدلية ، يختلف عن الديكتاتورية العرقية او القارية او الطبقية . وليس هذا الشيء ايضا بصيغة تسوية بسيطة لن تكون سوى خدعة وظلم مستمر وفضيحة .اما المطلوب تحقيقه فهو انسجام و توافق اجتماعي و بشري كامل ، وفي هذا المشروع مخاطرة .

   اما نحن ،فتبيننا لنظرية التطور والاستبطان الكامل للانسان ، أردنا ان نعالج الكائن بكليته التامه من الناحية البيولوجية و الاجتماعية والروحية .

"ليس اللون الاحمر سوى لون أملنا "

   يتبين من كل ما سبق اننا لسنا من "الاسياد الحمر" واننا بعيدون كل البعد عن مراكيز القرن الثامن عشر ،الفلاسفة او عن " الدوقيات الرومنطقية في الجمهورية الثالثة ".

    ان عقدة نقص تدفع العناصر الضعيفة و غير المستقرة عن العقائد المتطرفة .اما نحن بصفتنا طليعة ، لسـنا مصابين بهذه العقدة . هذا لا يعني اننا لا نفضل هذه العقائد  على " الانحلال و التفسخ البورجوازي ".لكننا نعود لنؤكد ان بالواقع ليس اللون الاحمر سوى لون رايتنا ، لون آمالنا.

    قلنا ان مشروعنا هذا هو نوع من المخاطرة . ومن هنا يمكننا فهم هذه الاهمية التي نوليها لانشاء بيوت للشبيبة وتعاونيات للعمل والانتاج .اننا نفهم هذه المؤسسات على انها مراكز تجديد النسل على الاصعدة الاخلاقية والروحية والجسدية ."كما اننا نفهمها مدرسة للاجيال القادمة ونوعا من المصانع ". تعيد للفلاح ايمانه بالارض و تعطي العامل مسؤولية العمل و الامل ولرب العمل الشرف والشعور بسعادة " اقتسام الخبر" ، كما من شأنها اعطاء المثقف فرصة التدريب واغناء النفس بواسطة التعاون الملائم على صعيد العمل اليدوى او غير اليدوى ، خاصة وان هؤلاء المثقفين بخشون الجماهير بصورة عامة ، بسبب نقص في الشخصية وافتقارهم لهذا الاحساس بالوقائع الانسانية النهائية ، ولهذا الحس بوجودية تطورية اجتماعية وبشرية . اما معظم الشباب ، فلم يلمس بعد ، وبسبب الوقوع تحت تأثير هواجس مركزها الذات ( رومنطيقية كانت ام نفسية ) ، ان الحياة يمكن ردها في النهاية الى ما يلي : " الله والغير هما الشي لنفسه ، والاساس هو الخروج من الذات ". . .

المطلوب هو التوفيق

   في ما عدا ذلك ،وكما تلاحظون بصواب ، فلا نعتقد اننا على هامش الوقائع التي تحيط بنا وهي :

-        عملية التصنيع المتنامي في لبنان .

-   تصلب و "قصر نظر" بورجوازية رأسمالية ومالية مكونة بمعظمها من " حديثي النعمة " وأثرياء الحرب .

-   الغياب الكامل (الا في ما يتعلق بالشيوعية والشبيبة المسيحية ) لأي نوع من العقيدة الاجتماعية في البلاد ، بعد ان توقف نمو تشكيلات الشبيبة عدد حدود المرحلة الطائفية ، اى عند مرحلة ما قبل القومية .

    وامام هذا الخليط من الاشياء القديمة المتنوعة المكونة للبنان ، لبنان الذى يزيد انقسامه على نفسه بقدر ما يتقدم ، نحن نعتقد ، وبحق ، ان المجال ربما الوحيد للالتقاء هو الانصهار والتعاون على الصعيد الاجتماعي .

   أيها الصديق العزيز ، أنت على صواب عندما تنصحنا بالحذر والعمل بروية في هذا البلد الذي يخاف التطور .

   ان ملاحظاتكم صحيحة ودقيقة .خاصة وان في خلاصة الامور يمكننا القول ان عملنا شاف ودؤوب ، كأعمال العديد من الشبان .

   ذلك ان المطلوب في الحقيقة هو اعادة التوفيق بين الاخلاق والدولة ، بين الجماهير و النخبة ، بين المواطن والجماعة ، بين القومية وتيار التكور البشري ، بين الديانة الشعبية والروحانية بين الفرد والارض ، بين الانسان والعمل ، وبين التقنية والثقافة .

   اننا كعلامة ورمز لهذه الازمنة ، أردنا ونحن نستقبل ألف سنة جديدة من السلام ان نكون هذا الشباب المؤمن والباحث عن اتمام الحلم الكبير والمغامرة الكبرى .

 

                                                     كمال جنبلاط

( الاوريان 21 كانون الثاني 1950 )

    

 

 

Home

Up one Level