رسالة إلى الوطن الجريح

 

ماذا نريد من لبنان؟

نريده منفتحًا على جميع التيّارات الفكرية في العالم، وأن تكون حدود لبنان الفكرية هي العالم، وأن يكون اللبناني مواطنًا عالميًّا. فلا توجيه للثقافة في لبنان، ولا انعزالية لبنانية ضيّقة في لبنان، ولا انعزالية عربية إقليمية ضيّقة.

       نريده حقلاً لتجربة كبرى ومحاولة جلل بين بعض نظريّات الدول الاجتماعية، ومنها الماركسية، والاشتراكية التي ثبت صلاحها، والتي تؤمّن  للعامل والمنتج والمستهلك شرف الخدمة وشرف الحياة وطمأنينة العيش، ونظم أوروبا الغربية وأميركا التي تكفل له الحرّية الشخصية على اختلافها (حرّية القول والعمل والمعتقد، إلخ...).

       من ممارسة هذه النظم الجديدة التي سيولّدها العقل اللبناني والعبقرية، وتضطلع بها نخبة مختارة، ستشعّ في لبنان نور مدنية جديدة تجمع بين النقيضين، بين الغرب والشرق، بين الديمقراطية الأوروبية والديمقراطية الاشتراكية، بين الأخلاق والقانون والنظام والحرّية، بين الإنتاج والعمل، بين الصوفية والصناعة الميكانيكية الحديثة (أو بين العمل والتصوّف).

       أمّا ملكنا، فسيظلّ شاسع الأطراف، قائمًا على العقل وعلى فتوح أبنائنا في كلّ صقع، وإشعاع المعرفة في لبنان وفي العالم؛ والفكرة قوّة كامنة في اللفظ تقلب الأنظمة وتغيّر وجه الدنيا.

       فمن صميم المعركة الصاخبة من حولي، معركة السياسة والغموض والتزوير والانتخابات، وتلك المهازل التي مثّلها الدجّالون فأصبحنا نخجل من تردادها وتكرارها أمام العالم، وفوق ضجيج الساحة السياسية، ووسط القرف والألم الشامل، يلذّ لي أن أسترجع بالذكرى عظمة لبنان الغابرة والمقبلة، والمطلّة علينا كوجه الظفر.

       طلب منّي صديقي أن أتكلّم من لبنان وعن لبنان، فأردت أن تكون كلمتي- رغم حسرة الأمة واشمئزازها وآلامها- كلمة أمل وتوجيه وإيمان؛ لأنّ هؤلاء الساسة الدجّالين الذين شوّهوا مؤقّتًا سمعة بلادي، لهم يوم قصير ويمضي، والمستقبل القريب يوم نصر لانتصار القضية ولانتصار الشرف.

       كلمتي هي كلمتك عن بلادك- وأيّ بهجة لنفسك! وأيّ إشراق في جوارحك حينما يُتَحدَّثُ إليك دون كلل ولا ملل عن لبنان! وأيّ لذّة وأيّ سعادة والربيع يطلّ في ربوعه، فكأنه نافذة من السماء تنفتح في أعماقك (نفسك) فيشعّ منها النور في خلاياك!

       ناشدتك الله وعاهدتك بأرز بلادك ألاّ تدع لليأس والقنوط في نفسك موضعًا، فالنصر للبنان.

       إنَّ معركة الاستقلال الخارجي قد انتهت وقد أزفّ وقت تحرّرنا الداخلي، لأنَّ لبنان ليس فقط أرضًا وتاريخًا، بل هو قيمة معنوية؛ إنَّ لبنان بعث، إنَّ لبنان تمرّد...

       لذا، فإنَّ معركة لبنان لن تنتهي إلاّ بالنصر.

       فما هو هذا الـ" لبنان"؟

       على مفرق الشرق والغرب، وفي بقعة من أرض الميعاد- أرض طهر وقداسة- يتلاقى ويتحابّ فيها البحر والجبل في جودة من المناخ وتنوّع التربة والطبيعة في نورانية وسحر- على ندرة هذا التلاقي وهذا الحدث في العالم وأثره في تكوين المجتمع اللبناني والعنصر اللبناني والشخصية اللبنانية دولة وأفرادًا، وعلى حدود وتشابك عوالم ثلاثة، المسيحية الأصيلة، وأوروبا الحديثة، والإسلام، ومن عنصر نيّر صافٍ متفوّق متميّز متمرّد في وجه التاريخ والفاتحين- على إطلاقهم- لحفظ كيانه واستقلاله، وفي وجه العيش، مع ما كان له من هجرة ومن مُلْك عبر البحار... ومن جهد عقل وزند، قام لبنان على أقدام جبال تتطلّع، هي التاريخ بأسره، قام هذا الوطن الصغير، فإذا به هو أيضًا يتطلّع إلى فوق، فرأى المستقبل وقد نتج في العقل، وفي المحبّة، وفي الأعماق، لا في الغنى.

       على مقربة من هذا البحر الذي شاهد عظمة صيدون وأثينا وقرطاجة وروما ودمشق والفسطاط وقرطبا وبيروت المجد القديم والجديد، قام لبنان... وظلّ متمرّدًا في وجه الفاتحين على إطلاقهم، وفي وجه القدرية الآسيوية والخمول والتخاذل الشرقي، فكان دائمًا رسول بعث، وعامل خلق، ومشعل نهضة. أمّا فكرة التمرّد، فتتجزّأ وفق ما يلي:

       أ- التمرّد في سبيل العيش: فتحوَّل الجبل إلى سهل خصب، ونُحِتَ الصخر، وأنبت القاحل، وأحيا الحياة في الموت حيث كان موئل الوحوش والنسور.

      ب- التمرّد في سبيل الحياة: إنَّ جدودكم فتحوا في الماضي أوروبا وعشّشوا فيها، وجدودنا عبروا البحر المتوسّط وشواطئ الغال وبريطانيا.

       ج- التمرّد في سبيل الإبداع: فكفانا تمرّدًا في وجه أربعة آلاف سنة من التاريخ، وها أنتم بنيتم حتى كلّ قطب، واليوم يتمرّد لبنان على الدجّالين تمرّد الأُسُود.

       وتسألون: وغدًا...ماذا سيكون لبنان؟

-        سيكون عامل التطوّر بين الدول العربية، تتلقّن عن لبنان الفلسفة والعلم.

-        سيكون دولة نموذجية ذات نظم شريفة تقدّمية تتساوى فيها حقوق الأفراد والجماعات، وتحتلّ فيها المرأة مكانة مرموقة، وعنها (أي عن تلك الدولة) تُقتَبَسُ جميع نظم الغرب.

-        ستكون لنا رسالة في الديمقراطية جديدة.

-        سيظلّ ملكًا شاسع الأطراف، كما ذكرنا، قائمًا على فتوح العقل وإشعاع المعرفة والتقدّم- والفكر قوّة كامنة تزلزل الدنيا- ولن يقتصر هذا على الدول.

-        ستكون لنا رسالة في السلام، لأنَّ اللبناني هو مواطن للعالم.

فمن صميم معركة لبنان التي وصفت، ومن صميم الجبل الذي أحببته، يا أخي المهاجر، وأحببناه كالنعمة والرحمة، والغيث بعد القحل، والإيمان بعد الجهد، وكروعة الطهارة وبساطتها بعد التبرّج، وكالغفران بعد الخطيئة...من صميم لبنان، يطيب لي أن تسمع صوتي وهو صوت لبنان الجديد.

       من صميم المعركة، معركة النفس للسيطرة على النفس، ومعركة الجسد للسيطرة على الجسد، ومن لا يكون قائدًا لنفسه لا يصحّ له أن يقود الجماعة، معركة القيادة، معركة النخبة الخيّرة المختارة...وباسم وبروح هذا الإيمان بلبنان، نريد اليوم أن يكون في العالم رسل للديمقراطية الجديدة الصحيحة التي تجمع بين حرّية الفكر والمعتقد، وطمأنينة العيش للفقير والفلاّح والمسكين.

       نريد أن نجمع بين أنظمة الدول الجماعية التي برهنت للعالم عن صلاحياتها، وأنظمة الديمقراطية.

       نحن نريد أن نبعث...

       وأنتم، يا صديقي، رسل لبنان في الخارج، أنتم سفراؤه الحقيقيون، أنتم مُلْك للبنان، وأيّ مُلْك أفسح من مُلْك المقدوني، أعظم من مُلْك روما وأفسح من مُلْك العرب، وأروع من مُلْك روما، وأثمن من مُلْك كسرى؟!

       وائذنوا لي أن أقول ختامًا، وبكلّ تواضع: ليكن نضالنا لا لأجل المصالح والمكاسب المؤقّتة التي يمكن أن نحصل عليها، بل لأجل بناء مجتمع متكامل متكافئ عادل، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا ظلّت نفوسنا معلّقة، ومشاعرنا توّاقة، وبصائرنا مستمرّة في تحقيق نظام إنساني توحي به الاشتراكية الحقيقية التي تؤمن بأنَّ العقيدة إنّما وجدت لأجل خدمة الإنسان، ولم يوجد الإنسان لأجل العقيدة- أية كانت تلك العقيدة في حقل الاجتماع والسياسة والدين.

       فالعقائد والأيديولوجيات تتطوّر وتمرّ، ولكنَّ الإنسان في جوهره الشريف يبقى... هذا هو الخلود الحقيقي: خلود الإنسانية في الإنسان، تلك التي تتفتّح فينا على قيم الحقّ والخير والمحبّة والأخوّة والتضامن والتعاون والحضارة والجمال.

 

كمال جنبلاط

 

Home

Up one Level