الدين والدولة

 

يقول الكثيرون: "نريد فصل الدين عن الدولة"، وهو تعبير شائع مصطلح عليه ولكنه خاطئ في دلالاته وفي مفهومه، وقد يؤدّي إلى التباس وإلى تضليل محتوم. وإنّما يُقصد منه فصل الطائفة عن الدولة، التمييز بين الطائفية والدولة، لأنه في الحقيقة لا يمكن فصل الدين عن الدولة: الدين، في جوهره، سعي شخصي واجتماعي للوصول إلى الحقيقة من جهة ولإحلال المناقبية (علم الأخلاق) في علاقات الناس بعضها مع بعض من جهة أخرى. فهل يمكن للسياسة، وهي نهج الدولة ووسيلتها، أن تتنكّر للحقيقة والمناقبية دون أن تتحوّل إلى تدجيل وطغيان ومكيافيلية؟! تلك هي مشكلة العالم الحديث الذي وضع للدين قاعدة وللدولة قاعدة، ففصل بين جوهر الدين وجوهر السياسة.

وكان من نتيجة هذا التمييز الخاطئ بين الدولة والدين والمحطّ لقيمة الإنسان أن ابتلينا بالمادّية على تنوّعها: المادّية الرأسمالية الفردية التي تضع مصلحة الربح، مصلحة الفرد، فوق كلّ حقيقة وكلّ مناقبية؛ والمادّية الاجتماعية التي تجعل ـ باسم العنصر وباسم القومية ـ مصلحة الجماعة فوق كلّ اعتبار لحقيقة ولمناقبية، والمادّية الماركسية التي تجعل مصلحة الفئات العاملة فوق كلّ اعتبار لحقيقة أو لمناقبية، وغيرها من المادّيات كالمادّية الوجودية الفردية، والمادّية الوجودية الإباحية، إلخ،...

وكان من نتيجة هذا التمييز الخاطئ المحطّ بين الدين ـ جوهر الدين ـ والدولة، أنَّ الكثيرين من رجال الدين كانوا ولا يزالون يميّزون ويفرّقون بين السياسة والدين، بين الدولة والدين، فيرتضون لهم ولأفراد رعيّتهم تصرّفًا في السياسة قد يخالف روح الدين، جوهر الدين ـ أي يناقض الحقيقة ويتنكّر للمناقبية، فيقولون ويوحون بتصرّفهم أنَّ للدين قاعدة وللسياسة والدولة قاعدة أخرى، كأنَّ التصرّف السياسي ليس هو تصرّف إنساني. تلك هي، في الحقيقة، "مادّية طائفية" تجعل المصلحة، مصلحة الطائفة الزمنية، مصلحة المتولّين على الطائفة، وتجعل حقوق الطائفة الزمنية متوجّبات الحقيقة والمناقبية فوق موجبات الدين.

تلك هي مادّية، وهذه أيضًا مادّية...

والمصالح والحقوق الطائفية تتغيّر وتتبدّل وفق الأزمنة والأحكام.

إذًا التعبير الصحيح ليس هو فصل الدين عن الدولة، بل فصل الطائفة عن الدولة وفصل الدولة عن الطائفة. وإنّما الطائفة وُجدت لأغراض تعاونية وطقسية ونظامية محصورة ومعيّنة، هدفها توضيح وتحقيق بعض مفاهيم المعتقدات الدينية. والدولة وُجدت لأهداف غيرها، بل هي أهداف محض مجتمعية.

لا نريد فصل الدين عن الدولة بالمعنى الذي أشرنا إليه، بل نريد فصل الطائفة عن الدولة. ونعني بذلك بخاصة نظام الطائفية السياسية، أي أنه لا يجوز ـ ضمن الوطن الواحد، أي المجتمع الواحد ـ أن لا يكون جميع المواطنين متساوين بالحقوق المجتمعية، أي المدنية والسياسية والاقتصادية أمام الدولة، فلا تحكم أحدهم شرعة وقانون لا يخضع لهما سواه من المواطنين، وإلاّ تصبح الطائفة دولة ضمن الدولة، وتصبح الدولة المركزية فَدَراسيون  Fédération(اتحاد) بين الطوائف، وهذا منافٍ لمفهوم الدولة الديمقراطي الصحيح، وهذا مناقض لمبدأ المساواة والأخوّة التامة بين البشر ـ تلك المساواة والأخوّة التي تتعدّى الأديان والتي لولاها لما قام دين ولما صحّت رسالة وتبشير ـ وجميع المعتقدات الدينية تفرض وحدة العنصر البشري، وحدة الكائنات البشرية ـ في كلّ بشري نسمة روح هي ذاتها أيًّا كان دين المؤمن. فلا يصحّ إذًا هذا التفريق، هذا التمييز الذي يريده البعض بين مواطن ومواطن عن طريق تمسّكهم بالطائفية السياسية... ذلك مخالف وناقض للأخوّة والمساواة الجوهرية بين الناس التي يفرضها الدين.

نعني بفصل الطائفة عن الدولة أن لا يقع تفريق وتمييز ضمن الوطن الواحد بين مواطن ومواطن على أساس مظهر الدين الاجتماعي الشكلي، أي الطائفة؛ والأديان جميعها طريق يهدف إلى الحقيقة ذاتها. فالدين شخصي في جوهره، اجتماعي في بعض مظاهره ولكن ليس هو مجتمعي ـ أي ليس هو ظاهرة شاملة للوطن الواحد. فلا يصحّ إذًا أن يكون هنالك مواطن "بشري" قابل أن يصبح رئيسًا للدولة بفضل انتسابه لطائفة معيّنة، وذاك لا يحقّ له أن يُنتخب مختارًا لمزرعة!    وهذا يحكم بتركة وذاك يُحرم من إرث آبائه وأجداده، ويكون كلاهما في حالة حقية مماثلة... إلى غيرها من الحالات الشاذة التي يريدها لنا المتمسّكون بالطائفية السياسية، أي بمبدأ اللامبالاة.

نعني بالفصل بين الطائفة والدولة أنَّ لا أكثرية ـ ضمن الدولة الواحدة ـ إلاّ للرأي، لرأي الجميع، لا للطائفية مهما بلغت قلّتها وكثرتها. والطائفة لم تعد في العصور الحديثة مرتكزًا لقيام الدولة، بل أضحت مجموعة الطوائف هي التي تشكل هذا المرتكز الدولي.

نعني بفصل الطائفة عن الدولة، أنَّ الدين يقوم على الاختيار، على الحرية في الاختيار ـ لا إكراه ولا إلزام في الدين ـ وكل ما ورد في الكتب المقدسة يخالف ذلك، فهو ليس من جوهر الدين ويجب إسقاطه منها مهما بلغت صنميّتنا للوحي والتنزيل.

الدين يقوم على الاختيار، على الحرية، والدولة تقوم في معظم حالاتها وشرائعها على الإلزام، على الرابطة الملزمة. وسيلة الدين الإقناع والترغيب والمثل الصالح، أما الدولة فوسيلتها الغرض الإلزامي إلى أن يصبح مفهوم الواجب شاملاً، فيضمحلّ الإلزام على قدر ما يشعر المواطن بفكرة الانقياد الحرّ ـ وهذا ممكن للأفراد ولكن مستحيل للجماعة... لا رادع في الدين إلاّ الرادع المناقبي، أمّا الرادع في الدولة فهو العقاب المباشر (الحكم بالتعويض أو السجن).

فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يريد بعض رجال الدين أن يجعلوا من دينهم دولة، أي أن يلزموا المؤمنين إلزامًا قانونيًّا بضرورة التقيّد ببعض الطقوس والعادات والقواعد التي تنصّ عليها الطائفة (ومنها قواعد الأحوال الشخصية)؟‍! ذلك مخالف لفكرة الدين، ذلك مخالف لجوهر الدين.

نعني بفصل الطائفة عن الدولة أن لا تصبح قاعدة انتقاء المختارين لملك السماوات والقضاء على المستكبرين بنار الجحيم هي ذاتها قاعدة الحظوة والمنع في الوظائف والرئاسات وأنعام الدولة؛ فلا تكون شرعة الكفر والإيمان والثواب الآخري والعقاب التي وضعها رجال الدين لتحذير الناس ولتشويقهم هي ذاتها شرعة المواطنية ودستور البلاد وسياسة الدولة. هذا صفيّ وليّ يرتفع إلى ملكوت الرئاسة بوصفه ينتمي إلى طائفة الأكثرية، وذاك يبقى في مطهر الوزارة، وأولئك مقدّر لهم منذ الأزل أن يظلّوا قابعين في جحيم الوظائف الصغيرة الثانوية.

وقد نرضى ويرضى فينا الضمير ويرضى العقل بالشرعة الطائفية، لو أنَّ هؤلاء الذين يتمسّكون بها ويسعون لتطبيقها على جوهرها، على حقيقتها، فلا يرتفع منهم إلى ملك القيادات في الدولة وفي السياسة وفي المجتمع إلاّ الأفضلون بينهم نزاهة وتجرّدًا وجدارة ومناقبية وروحانية، عكس ما نراه من أمر هؤلاء المتزعّمين الكافرين المتنكّرين لشرف الحياة ولدين الآخرة. ولكن يكتفي رجال الدين بأن ينتسب هذا وذاك لطائفتهم بحكم الولادة لكي يصبح صالحًا للحكم ولتحمّل المسؤولية، أكان شرّيرًا أم صالحًا.

وأمرهم في ذلك غريب إذ يناقضون أنفسهم بأنفسهم، فيطلبون الجدارة والكفاءة والمناقبية في سبيل "إرث السماوات" وقيامة الأبرار في الجنّة ولا يطلبونها في حكم الأرض.

إنَّ لبنان، في الواقع، لا يزال، بالرغم من شكله الدستوري الطائفي، دولة تتنكّر للدين، تتنكّر للمناقبية، دولة أشرار لا دولة أخيار.

كان لا بدَّ من هذا التنويه لتوضيح نظرتنا للدولة ونظرة غيرنا من الطائفيين للدولة والسياسة. نعني نظرتهم "العملية"، [التي هي] نظرة "إلحادية"، "مثالبية" بالرغم من تعلّقهم بالدين والمناقبية. نظرتهم هي "الانتساب الطائفي" لا اختيار "الأبرار الصالحين" من ضمن الطائفة الواحدة.

نظرتنا، نظرة الواعين المدركين فينا هي أننا نريد دولة مناقبية ـ وأسس مناقبية واحدة تقريبًا لدى جميع الطوائف ـ ولا نريد الوضع المكيافيلي القائم، ولا نريد دولة إلحادية كما هي عليه في الغرب، ولا حتّى دولة "حيادية" بالنسبة للخير والشرّ. نريد دولة الصالحين القادرين المؤمنين حقًّا بالحقيقة وبقيم الضمير، ولا نريد دولة الأشرار والمتخاذلين والكفّار.

نريد دولة دينية في جوهرها ـ وجوهر الدين واحد على تفاوت الوجهة وتفاوت التقرّب من الحقيقة ـ ولا نريد دولة طائفية، أي دولة الانتساب الرحمي للطائفة، دولة الاستثمار لوشائج الطائفية، دولة العنصرية الطائفية.

إنَّ أكثر الأحقاب الزمنية استقرارًا في التاريخ ـ في العهد القديم وفي العهد الحديث، قبل المسيح وبعده ـ هي التي أدركت فيها الشعوب وأدرك فيها رجال الدين أنه لا يجوز الفصل بين الدين والدولة.

إذًا، يجب أن يكون لرجال الدين سياسة، فنحن لا نقول كغيرنا بأنه لا يحقّ لرجال الدين أن يمارسوا السياسة. إنَّ التنظيم الإكليريكي هو بحدِّ ذاته حزب. إنَّ التشكيل الخارجي للدين هو تشكيل حزبي، أي يكتنف على تحقيق فكرة توزيع العمل والمسؤولية والرتبية ويتضمّن نهجًا وبرامج وغاية. ولكن ما هي هذه السياسة؟ هي سياسة الدين لا سياسة الطائفية.

فالذي نطلبه من رجال الدين هو:

1 ـ أن يكون لهم نهج ديني، أي مناقبي في سياستهم، أن لا يكون في نظرهم مناقبية للسياسة ومناقبية للدين، أي نهج وقواعد في السياسة تختلف عن نهج الدين، عن قواعد الدين... نطالبهم، هم، بأن لا يفصلوا بين الدين والسياسة، بين الدين والدولة، بأن يجعلوا الدين أساسًا لتصرّفهم السياسي ولموقفهم إزاء الدولة، إزاء متنفّذي هذا العهد ومتنفّذي كلّ عهد.

2 ـ نطلب من رجال الدين أن تكون لهم نظرة لشؤون الدولة وللمجتمع، ترتكز إلى مبادئ الدين الرامية إلى تحقيق المساواة والعدالة بين المواطنين وتوفير الطمأنينة الاجتماعية لهم.

كم كنّا نتمنّى من رجال الدين أن يطالبوا مثلاً بصورة ملحّة ومستمرّة بالضمانات الاجتماعية للعمّال والفلاّحين، أن يطالبوا بحقّ الفئات الكادحة في الملكية وفي تأمين العمل وفي توفير العلم والعدالة للجميع، وفي التوظيف لجميع المواطنين على السواء، وفي تبنّي الحركات والأفكار التقدّمية عمليًّا لا نظريًّا، كما تنصّ على ذلك بعض تعاليم القرآن "الاشتراكية" ورسائل الباباوات وكلّ كلمة من كلمات الإنجيل.

كم كنّا نتمنّى أن يقف رجال الدين صفًّا واحدًا في وجه المستثمرين والمحتكرين والظالمين، أو على الأقلّ أن يقاطعوهم إلى أن يصلح الله ما هم عليه من شأن.

في الدورة الانتخابية الماضية وفي سابقتها في طوافنا على بعض المناطق الانتخابية، تمنّينا أن يقول لنا رجل واحد من رجال الدين من الذين اتّصلنا بهم ـ أكان شيخًا أم مفتيًا أم أسقفًا ـ "يا صاحبي، إني سأنتخبك إذا تعهّدت لي بتنفيذ مشروع الضمان الصحّي لجميع اللبنانيين، أو مشروع التعويض عن العمّال العاطلين عن العمل، أو مشروع العلم الابتدائي الإجباري للجميع، أو مشروع إلغاء الدعارة وتطهير الأفلام وواجهات دور السينما والمكاتب من الصور والكتب الإباحية الفاسدة، وغيرها من المشاريع الإصلاحية العامة".

علّنا في الانتخابات المقبلة نحظى بتأييد مشروط لا بتأييد غير مشروط، ليس فقط من رجال الدين، بل من جميع المواطنين على إطلاقهم.

تلك تكون دلالة الوعي، دلالة انتصار العدالة في نفوس الشعب قبل انتصارها في نفوس الحكّام. وكما تكونون يولى عليكم.

 

كمال جنبلاط

الأنباء، 11/4/1952

 

Home

Up one Level