على هامش مؤتمر الحرّيات

طريق التسامح

 

قد يكون من أهمّ الأحداث التي وقعت في هذا الأسبوع أن يجتمع فريق من رجال الفكر والسياسة اللبنانيين حول طاولة مستديرة ليستمعوا إلى أراء مختلفة في قضايا متنوعة ثم يناقشونها بكل حرية.

إنَّ بادرة السيد بشاره الغريب، باسم مؤتمر حرية الثقافة الذي يمثّله، هي من المبادرات التي تُقدَّر له ويُشكَر عليها. وإننا نظن أنَّ مثل هذه الأبحاث تجرى في مثل هذا المستوى تساعدنا كثيرًا على اكتشاف حدود ومحدوديات فكرنا وتفتح أمامنا سبيل التفاهم والتلاقي مع الآخرين.

في لبنان اليوم ـ بين فئات قليلة من الناس والحمد لله ـ صراع يسمّونه عقائديًّا يدور أكثره حول هذه القومية أو ما يظنونه هذا الدين أو ذاك. ولا يفطن أصحاب هذه المناظرات أنهم في النهاية يتحسّسون لكلمات، أنا قومي من هذا الصنف، وأنت قومي من اللون الفلاني. ولو استخدموا فكرة الوطنية لعادوا واتّفقوا ربما جميعهم على ما يريدون قوله. ولكن شاؤوا أن يصبّوا تفكيرهم في كلمة هي نفسها مستحدثة في اللغة الغربية فاختلفوا عليها وما من أحد يعرف أين تنتهي وأين تبدأ. ولو رأوا الحقيقة بأم العين لأدركوا أيضـًا أنَّ المسيحية الأصيلة والإسلام الأصيل في النهاية يلتقيان في جوهر تحققهما ولا يفترقان، ولكن أكثر الناس من المتشاحنين يفرغون في القومية كلّ ما تزخر به نفوسهم من قوى مكبوتة غامضة، ثم هم أنفسهم يقعون فريسة هذا السحر الذي يجذب إليه الغموض... وإلاّ لو فكّرنا بالولاء للبنان، من منّا، إن كان وطنيًّا مخلصًا، لا يضمر الولاء لهذا الوطن؟!

تشبه مناظرات هذا العصر في لبنان تمامًا الهرطقات القديمة التي ارتفعت على هذا الشاطئ قبل المسيحية وبعدها وقبل الإسلام وبعده. فكلنا نبحث في جنس الملائكة. على أنَّ الطائفية المتداخلة في مثل هذه المواضيع يجب أن لا تطغي، فنكون إذ ذاك كمن يلهو بالنار.

حبّذا لو اجتمع على الدوام بعض اللبنانيين المنتسبين إلى شتى الفئات وتناقشوا في هدوء وانتظام، إذًا، لأفادوا واستفادوا ولوصلوا إلى تفهّم بعضهم البعض بشكل يزيد وضوحًا على الدوام.

المؤتمرات الوطنية يجب أن تتكرّر، وكذلك الحلقات الدراسية على هذا المستوى العالي الذي شاهدناه. إذاً، لضعفت إمكانية الإثارة والاستغلال، ولاضطلعنا بشكل أوفى وأعمّ بمشاكلنا، ولتسامحنا أكثر بعضنا مع بعض ولقبلنا أكثر أن يكون لغيرنا حقّ برأي يخالف به رأينا. ولنا في النهاية رجاء، أن لا نعير الأشياء أكثر من الاهتمام الذي تستحقّه، فنحن الذين نزيد في حدّة هذا الاهتمام وننقصه. إنَّ هذه المناظرات الطائفية التي تحصل في بعض الصحف ما من مصلحة أحد أن يشير بشكل يستدلّ منه أنه متأثر بما ورد فيها وإلاّ اللعبة قد تستمرّ لشرّ وخراب هذا البلد.

ما من معضلة تقف في وجه التفهم المحب الحقيقي، ولكن الناس يؤثرون التحزّب على التمسّك بالعدل والحقّ، ويستسيغون الأباطيل لأنها قد تعبّر عن نظرة لهم في الحياة.

إنَّ الوحدة الحياتية والتعاون اليومي الحياتي هو الذي يجمع، والذي لا يرى ذلك كمن لا يفطن أنَّ منطق الواقع هو أقوى من سفسطائية العقائد، وطوبيّتها.

إننا، في النهاية، عندما نجوع يجب أن نأكل ولا نستطيع أن نقنع أنفسنا بعدم الرغبة في الطعام أو كمن ينكر صديقًا حميمًا له أو قريبًا أو عاملاً أو ربّ مصنع لأنه فطن أنَّ هذا ينتمي إلى طائفة غير طائفته. أو مَن منّا ينسى أنه بشر إنسان ويعود ليفتّش في نفسه، عن الحلقة المفقودة؟‍‍!

 

كمال جنبلاط

الأنباء، 18/5/1956

 

 

 

Home

Up one Level