الدور الحقيقي للمسيحية في لبنان: رسالتها

السير في طليعة التيار الوطني العربي وتزعم التقدمية

 

 

ان دور المسيحية الحقيقي في الشرق العربي ، كما هو في العالم بأسره ، هو استمساك اصيل بالمبادىء الانسانية الثورية بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، والتي تتشخص في حياة الناصري واستشهاده ، وفي مبادىء الانجيل المتمردة على كل حرفية معتادة : Conformisme

وأول ما يجب ايضاحه في هذا الحقل ،ان كبار المتشرعين الدستوريين كهربو ولوفور وبعض الفلاسفة

كبرغون يعتبرون ان الديمقراطية السياسية في اوروبا التي تحققت بالتطور السلمي في بريطانيا وبلدان اسكندينافيا ، وبالثورات الشعبية في فرنسا والولايات المتحدة وسواها من البلدان ، كانت في اساسها وجذورها مبادىء الاخوة والمساواة الانجيلية .

ومن جهة اخرى، يجب ان نذكر انه لولا انتشار هذه المبادىء المسيحية الانجيلية في اوساط الشعب السوفياتي وتغلغلها في مفاهيم فكره واستحواذها على مشاعر الفئات الفقيرة والمتخلفة لما كان هذا الشعب العظيم تحسس بالتناقض بين النظام التعسفي الظالم الذي كان قائما في الاتحاد السوفياتي قبل الثورة وبين ما يكرر في كل صباح في بيوت العبادة ، على حد التعبير الانجيلي الشهير : " اسمعوا اقوالهم واتبعوها ولا تفعلوا افعالهم ".فكان لا يمكن للثورة الماركسية ان تقوم لولا تعمق الافكار الانجيلية المسيحية في ذهنية الشعب الروسي وتصويرها للواقع الذي يجب ان يكون في غير مثال الواقع المظلم المحسوس .فكانت الثورة الباشفية في الاتحاد السوفياتي ردة حقيقية وانتفاضا عنيفا دمويا على الذين حملوا بذور فكرة الاخوة والمساواة والمحبة والتضامن والتضحية لاجل الغير واحتضنوها ما يقرب من تسعة عشر قرنا فلم يحاولوا ان يحققوا هذه المبادىء في انظمة المجتمع وعلاقات الفئات الاجتماعية فيما بينها وفي حياتها ، فخيانة هذه المبادىء السامية هي التي تسبب بالثورة المدمرة المذهلة التي قام على اساسها نظام يهدف الى المساواة الكاملة وكأنه لون مطلق من المسيحية بدون آلهة المسيحية وطقوسها وروحيتها.

او لم يقل الناصري :" ليس الذين يقولون يا رب.يا رب. هم الذين يدخلون ملكوت السموات انهم الذين يفعلون مشيئتي " ومشيئة السيد الناصري هي في تجسيد مفاهيم المساواة والاخوة والمحبة والتضامن الانساني في انظمة المجتمع ، في ذهنية المجتمع ، في اهداف الدولة والمجتمع.

والذي رأيناه في اوروبا ، وفي الشرق على السواء ، ان رجال الدين _ معظم رجال الدين _ قد تخلفوا عن مسيرة الاجيال الكبرى في فعل التجسيد الكبير الذي فرض عليهم ان يتمثلوا به وان يجعلوه واقعا حيا في المجتمع وفي الدولة ، وان العلمانيين من بعض قادة السياسة هم الذين اخذوا على عاتقهم تحقيق الرسالة السامية . فمن هذه الوجهة كان ارباب المدرسة الاشتراكية كروبرت اوين وبردون وسان سيمون وماركس وانجلز وجريس وبليخانوف وكاوتسكي ولينين اكثر مسيحية من حيث الدعوة الفعلية الى تحقيق الاخوة والمساواة والتضامن الانساني في الانظمة وفي المؤسسات الاجتماعية وفي الدولة من كثير ممن يعظون ولا يفعلون ، وينسى هؤلاء ان الناصري لم يأت الى هذه الدنيا ليتحالف مع اغنياء الارض وكهان هيكل اورشليم المستثمرين للصداقات والتقديمات بل جاء على حد تعبيره "لاجل الفقراء" ، وان تعاليمه وحياته ثورة اجتماعية بالمعنى الصحيح للكلمة. ولذا سميت دعوته : (بملكوت الفقراء) فكيف يمكن لاحد من القيمين على هذه الرسالة ان يتحالف مع مظالم الرأسمالية ومقومات الحضارة المادية التي اوجدتها هذه الرأسمالية؟

الدور الحقيقي للمسيحية في الشرق هو في تزعم فكرة التقدم ، والدعوة لتحقيق مبادىء المساواة والاخوة والتضامن في الاقتصاد ، وفي الاجتماع ، وفي السياسة _ تلك المساواة  الوظيفية التي تؤمن على الاقل فرص المبادرة ذاتها للجميع _ وان يسعوا الى تقويض المظالم والى هدم الاحتكارات وتجنيب جماهير الشعب من العمال والفلاحين والفئات المتوسطة والمثقفين جحيم الحرمان والتخلف الذي يعيشون فيه ، قبل ان يبعد عنهم خشية الوقوع في الجحيم الاخر.

والمسيحية بطبيعة تكوينها تتبنى علمنة الدولة ، اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله _ وتتمسك بالوطنية الحقيقية المنفتحة على التضامن الانساني وعلى الاخوة الشاملة _ ان ملكوتي ليس من هذه الارض ، اي ليس على شاكلة ما كانت تمثله الدولة الوثنية الرومانية من انغلاق ونزعة تميز واستعلاء .

وتمر الاجيال ،فاذا البذور الكريمة تلقى اخيرا البيئة الصالحة لابنائها في المجتمع الحديث بعد ان تخلف عن دفعها في دور التحقيق العملي معظم القيمين على احتضانها خلال القرون المتعاقبة ، فاذا بالعالم البيولوجي الشهير الاب اليسوعي تيلار دي شاردان يدرك من خلال ما ذهب اليه ماركس ولينين وجوريس وماوتسي تونغ وحزب العمال البريطاني ، والتجربات الاشتراكية في اسكندنافيا وفي الهند الى اخره ،وفوق ما ذهب اليه هؤلاء جميعا ان الاشتراكية الاجتماعية هي مظهر حتمي من مظاهر التطور السلالي للانسان عندما يبلغ مرحلة معينة من التكاثر النوعي فاذا بكلمة Socialisation اي الاشتراكية الاجتماعية ترد في قلمه وعلى لسانه ، واذا به يرى في التجربات الكلية الجماعية التي قامت في المانيا النازية وفي ايطاليا الفاشستية وخصوصا في الانظمة الديموقراطية ، وفي الشيوعية المركسية السوفياتية و الصينية ، مثالات للمجتمع المقبل الجديد الذي تنبع اشتراكيته ومشاركته من تكاثر عدد السكان ، ومن تكثف العلاقات المعنوية والمادية بين افراده . ويرى الاب تيلار دي شاردان ان الانظمة الجماعية الكلية التي سيعدل ويبدل المستقبل من بعض ما ذهبت اليه من تطرف ، تؤلف بعض حثالات النظام الاجتماعي والاقتصادي الجديد.

ثم تاتي الرسالات البابوية وخاصة الاخيرة المسماة "بأم ومعلمة" لتعلن على الملأ وعلى الجمهور في جميع اقطار الارض بالفرنسية ايضا Socialisation تلك الكلمة ذاتها التي حرفيا :" تقديرها للاتجاه الاشتراكي المعاصر " وتسمية استخدمها اليوم بلوم رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي فيما سبق ..

وها هي رسالة الاساقفة السبعة عشر يتوجهون بها باسم هذه الروحية الانجيلية الصحيحة كما سننشر ذلك في العدد المقبل لصحيفة "الانباء"، ليعلنوا ان الكنيسة لا يمكنها ان تتنكر للاشتراكية في أي حال من الاحوال لان الاشتراكية اقرب الى الانجيل والفكرة المسيحية من الراسمالية وان على المسيحيين ان يدعموا التفكير الاشتراكي وان يتبنوا انتاجه ، فقد جاء حرفيا على لسانهم في صحيفة 11 : " أما الكنيسة اذا ما تساهلت في القرن الماضي مع الرأسمالية وبعض تصرفاتها التي لا تنسجم مع تعاليم الانجيل ، فما ذلك الا لانها اخذت بعين الاعتبار بعض مستلزمات التقدم المادي.ولا يسعها (أي الكنيسة) الان الا ان تفرح بظهور نظام اجتماعي جديد اقرب الى اخلاقية الانجيل. وعلى مسيحيي الغد حسب اشارة البابابولس السادس في رسالته العامة عن الكنيسة، ان يعودوا بهذه القيم الاخلاقية من تضامن واخوة الى اصولها العميقة، فهي المسيحية".ان من واجب اذا ما عشناها بكليتها في التوزيع العادل للخيرات والمساواة المسيحيين ان يظهروا للجميع ان الاشتراكية هي المسيحية الاساسية بين الجميع " على حد تعبير البطريرك مكسيموس الرابع في المجتمع المسكوني".فلا داعي اذن للرد على الاشتراكية، بل فلنعتنقها بفرح، فانها ضرب من الحياة الاجتماعية يوافق عصرنا ويلائم روح الانجيل اكثر من غيره. وهكذا نفهم الجميع انه لا سبيل الى الخلط بين الله والدين من جهة وبين الاقطاعية والرأسمالية والامبريالية ، هذا الثالوث الذي يستبد بالعمال والفقراء".

رسالة النصرانية ، كما يبدو من كل ذلك، هي ويجب ان تكون، السير في طليعة التيار الوطني العربي كما فعل الجدود والاباء في القرن التاسع عشر وما قبله وفي بدايات ومنتصف القرن العشرين، وهي في تزعم التقدمية ومباركتها وهي في مشاركة الجماهير والقادة في نضالهم الاشتراكي الصحيح لاجل بناء عالم افضل. اما التمسك بمظالم الماضي وبتخلف اساليبه وبتقاعس الانظمة القائمة عن تحقيق المساواة والعدل في قصد الحفاظ على الامتيازات الاقتصادية والمالية والوجاهية والتربوية واستمرار هذه الامتيازات دون التطلع الى مصلحة الشعب في الغائها وتجاوزها لاجل بناء مجتمع تقدمي اشتراكي سليم، مثل هذا ليس من النصرانية بشيء ويوازي في المثال قبول السيد الناصري _ لو حصل ذلك _ باستثمار الهيكل لمقدسات الهيكل، والرضاء عن تصرفات الفريسيين والتحالف مع اغنياء اورشليم وقادتها الزمنيين، عوض التمرد والخلاف والثورة الاجتماعية التي واجه بها يسوع هذه الاوضاع من تغلب الحرف على الروح".

بقلم : كمال جنبلاط

المحرر تاريخ 24 كانون الاول 1968

 

 

 

 

Home

Up one Level